نوآع افيشاغ شنال
قُطِع ما لا يقلّ عن 2000 عام من الوجود اليمنيّ اليهوديّ في جيل واحد فقط. محاولة فهم هذا الانقطاع الثقافي ظلّت تطاردني منذ أن أصبحت قادرةً على إدراكه، وقد أثار في داخلي مشاعر تتراوح بين آبار من الحزن وغضب هائج. تسلسلت الأسئلة وتفرّعت، لكن الشرارة الأولى كانت واضحةً لا لبس فيها. للانفصال بين الناس والمكان، نقطة بداية. الصهيونيّة، ومن دعمها، هم من كسروا وفكّكوا روابط مجتمعنا -نزعوا المفصل- واقتلعوا ثقافتنا من تربتها الخصبة. وفي السنوات التي سبقت هذا الانفصال، ارتُكبت مجازر تطهير عرقي عنيفة بحق الفلسطينيين، جرى فيها تجريدهم من إنسانيتهم وتهجير الغالبية ممن عاشوا على هذه الأرض لقرون. تمزيق شعبَينا -أي اليهود اليمنيّين والفلسطينيين- كان حجراً في البناء الذي شيّده الصهاينة.
لطالما استخدمت إسرائيل الوجود التاريخي المستمرّ لليهود في البلدان العربية والإسلامية كواحد من أسباب رفضها حق العودة الفلسطيني، كما استخدمت واستغلّت حصرنا ضمن حدود مصطنعة كوسيلة للضغط، وكدليل وسلاح تبرير لادّعائها الحق الحصريّ في الأرض. ثمّة سُبل كثيرة لمقاومة هذا التلاعب والاستغلال الرمزي. على سبيل المثال، أنا تخلّيت عن جنسيتي الإسرائيليّة، التي مُنحت لي تلقائياً عن طريق والدتي، على الرغم من أنني وُلدت في الولايات المتحدة الأمريكية. لفهم مغادرة أجدادي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة، عام 1948، لا بدّ من التعامل مع السردية الزائفة التي عزّزتها إسرائيل عبر الأجيال، والتي تدّعي أنّ المجتمع اليهودي اليمني طُرد من أرضه، بينما في الحقيقة، تم التلاعب بمجتمعاتنا وشراؤها لتلبية الاحتياجات الديموغرافية والعماليّة، كما وثّق توم سيغيف، في كتابه "الإسرائيليّون الأوائل". هذه ليست حكاية تسعى إلى استدرار التعاطف، خصوصاً في وقت يُهدَّد فيه الشعب الفلسطيني بالإبادة. بل هي قصّة تهجير جماعيّ آخر لمجتمع من مجتمعات العالم العربيّ والإسلاميّ، وكيف أنّ انفصالاتنا متشابكة في صميمها.
أنا أفهم لماذا يرى بعض أصدقائي في المنطقة أنّ تعريف هويتهم كـ"عرب"، بدلاً من الإشارة إلى ثقافة محليّة محدّدة، هو تبسيط مفرط أو حتى غير دقيق؛ فأنا أُعرّف بنفسي كيمنيّة. ومع ذلك، فقد تمسّكت أيضاً بمصطلح "عربيّة" -برغم ضبابيته- كوسيلة لاستعادته من تجربة الطفولة وسنوات المراهقة، حينما صوِّر كل ما هو "عربيّ" على أنه غريب، ومختلف، ومستهجن. كانت عملية الاندماج الإسرائيليّة -بجانب الصهيونيّة المروّجة في الخارج- فعّالةً للغاية في خلق هويّة وطنيّة جديدة، صُمّمت لتتجاوز وتشوّه هويّات المهاجرين القادمين من بلدانهم الأصلية لتحلّ محلّها، خاصةً إن كانت تلك الهويّات تشكّل بأي شكل من الأشكال "العدوّ". أما بالنسبة لليهود القادمين من أراضٍ عربيّة وإسلاميّة، فقد كانت هذه العملية واضحةً وصريحةً في محاولاتها الإستراتيجية لمحو الذاكرة الجماعيّة للعروبة، ذلك الشيء الذي لطالما تاق إليه قلبي.
التلاعب
لم تكن حياة اليهود في اليمن مثاليّةً، لكنها كانت تتّسم بالتعايش والاحتفاء والاجتماع مع شركائهم في الوطن. كان اليهود اليمنيّون جزءاً لا يتجزّأ من النسيج الثقافي للبلاد، وكانوا معروفين بمهارتهم العالية في صياغة الفضّة. انتشر اليهود في جميع أنحاء اليمن، ومن أبرز مناطق تواجدهم: صنعاء، وريدة، والبيضاء، وحبان، ومناخة وعدن. وقد تعرّضت هذه العلاقة للتهديد، وتفككت في نهاية المطاف بفعل الحركة الصهيونية -التي كانت آنذاك تتألّف إلى حدّ كبير من يهود أوروبا الشرقية والوسطى- وسعيها الحثيث إلى تهجير أكبر عدد ممكن من اليهود.
قبل ثلاثة أشهر فقط من إعلان قيام "دولة إسرائيل"، والذي أدّى إلى اندلاع حرب عام 1948 العربيّة الإسرائيليّة، اغتيل ملك اليمن، الإمام يحيى محمد حميد الدين. وفي العام التالي، بدأت أولى عمليات النقل الجوي الجماعيّة لليهود اليمنيين. قيل لهم -كما قيل لجميع يهود البلدان العربيّة والإسلاميّة- إنّ أوطانهم لم تعد آمنةً لهم. لكن ما جرى تجاهله في هذا السرد هي التوتّرات الإقليميّة المتصاعدة بفعل العدوان الاستعماري الصهيوني.
لعب الصهاينة على وتر الجرح الذي عدّه اليهود اليمنيون صدمةً حديثةً: "منفى موزع" الذي جرى بين عامي 1679 و1680، وفق ما يرد في "تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين من البدايات إلى اليوم"، لعبد الوهاب المؤدب وبنيامين ستورا. إلا أنني أُجادل بأنّ الاضطرابات التي شهدتها الجالية اليهوديّة اليمنيّة في القرن العشرين، تسبّبت في أضرار أكبر بكثير من حيث محو الهويّة الثقافية. ونادراً ما تُذكر -حتّى وإن كانت أقرب عهداً في الذاكرة التاريخيّة لليهود اليمنيين- الفترة الممتدة من منتصف القرن الثامن عشر إلى أواخره وبدايات القرن التاسع عشر، حيث "ازدهرت الجالية اقتصاديّاً وفي مجالات أخرى، جزئيّاً، بسبب دورها في التجارة الدوليّة مع الهند"، عبر ميناء المخاء. كان بعض اليهود اليمنيين، الذين لا تزال ذاكرتهم مثقلةً بذكرى النفي، ويخشون إمكانية أن تتركهم مملكة في حالة اضطراب أو صعود إمام غير متعاطف، عرضةً إلى أن يكونوا مكشوفين ككبش فداء سهل. وفي حين تأثّر البعض بتلك المخاوف، كانت لدى آخرين دوافع اقتصاديّة واجتماعيّة للهجرة. بينما بقي آخرون، كانوا يعيشون حياةً مستقرّةً ومريحةً، أقلّ استعداداً للاستجابة لدعوات الرحيل. وظلّت مجموعة صغيرة من اليهود اليمنيين متمسّكةً بأرضها. وبحلول كانون الأول/ ديسمبر 2024، لم يتبقَّ في اليمن سوى عدد قليل جداً من اليهود.
تبع العديد من اليهود اليمنيين -وهم مجتمع متديّن، وروحي، ومتفانٍ ومنعزل جغرافيّاً- الدعوة بحماسة، وإن بسذاجة. فقد اعتقدوا -أو تمّ التلاعب بهم ليعتقدوا- أنهم يلبّون نداءً إلهياً موعوداً بالخلاص، لطالما ردّده دعاؤهم اليومي: العودة إلى القدس، وفق ما يرد في كتاب "ليسوا العدوّ… يهود إسرائيل من الأراضي العربية"، لراشيل شابي. وهذا لا ينفي عنهم إرادتهم الحرّة أو ينكر مسؤولية المجتمع في اتخاذ القرار، لكنه يسلّط الضوء على المنطق الذي بُرّرت من خلاله مغادرتهم أرضهم. قبل عمليات النقل الجوي بسنوات، سافر مبعوث صهيونيّ يُدعى صموئيل وارشافسكي، إلى اليمن لتشجيع الهجرة والترويج لها. ارتدى زيّ حاخام، وغيّر اسم عائلته مؤقّتاً إلى يافنيلي، ليبدو "أكثر شرقيّةً". أما المبعوث التابع للوكالة اليهوديّة في عدن، شلومو شميدت، فقد طلب الإذن باقتراح إصدار أمر رسميّ من الحكومة اليمنيّة يقضي بطرد اليهود من اليمن.
لقد استُهدِف مجتمعنا -بجانب يهود البلدان العربيّة والإسلاميّة الأخرى- بشكلٍ استباقيّ من قِبل مهندسي المشروع الصهيوني. وبصفتهم مهندسين اجتماعيين، عدّ المستوطنون هذه المجتمعات مثاليةً لتلبية الحاجة الملحّة إلى الأيدي العاملة في الدولة الناشئة، وفق ما يوضح سامي شالوم شطريت، في كتابه "الصراع اليهودي الداخلي في إسرائيل… اليهود البيض واليهود السود"، الصادر عام 2009. وقد دعا دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، إلى هجرتهم لهذا الغرض صراحةً وعلناً. لكن القادمين الجدد لم يكونوا على علم بأنه سيتوجّب عليهم للاندماج، والتخلّي عن تراثهم، والخضوع لـ"الأسرلة"، والأسوأ من ذلك، المشاركة في أعمال عنف لإزالة السكان الأصليين بالقوّة وسلب أراضيهم والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني. هذا لا يُبرّر الأمر، ولا يعفيهم من المسؤولية، لكنه يُسلِّط الضوء على حجم الخديعة التي تعرّضوا لها.
بالإضافة إلى العنف، انخرطت الحكومة الصهيونيّة في محو ممنهج للتاريخ الفلسطيني من الأرشيفات. وفي الوقت ذاته، قدّمت نسخةً مصقولةً ومزيّفةً عن تأسيس الدولة "البطولي"، غنيّة بالسرديّات الزائفة عن يهود "الشرق" المظلومين الذين أنقذتهم إسرائيل من الاضطهاد… شهادة يهوديّة يمنيّة
بالإضافة إلى العنف، انخرطت الحكومة الصهيونية في محو ممنهج للتاريخ الفلسطيني من الأرشيفات. وفي الوقت ذاته، قدّمت نسخةً مصقولةً ومزيّفةً عن تأسيس الدولة "البطولي"، غنيّة بالسرديّات الزائفة عن يهود "الشرق" المظلومين الذين أنقذتهم إسرائيل من الاضطهاد. في مقابلة أُجريت عام 2011، مع أحد اليهود القلائل الباقين في اليمن، الحاخام يحيى يوسف موسى، وُجهت إليه أسئلة متعالية تتّسم بالديماغوجية. فقد شكّك المُحاوِر في "نوع" اليهودية التي ينتمي إليها الحاخام موسى، وفي مستواه التعليمي، مشيراً إلى أنّ "إسرائيل تُنفِق ملايين الدولارات لجلب اليهود من جميع أنحاء العالم". فردّ الحاخام موسى، الذي كان قد أعلن سابقاً رغبته في البقاء في اليمن، بوضوح: "بالطبع، إنهم يتاجرون بالبشر كما يتاجر الناس بالمواشي".
الاندماج القسري
عملية "على جناح النسر" -التي سُمّيت أيضاً "عملية بساط الريح" من قِبل منظمة يهودية أمريكية، وهو اسم مشبع بالنظرة الاستشراقية- كانت الطريقة التي نُقل عبرها غالبية يهود اليمن إلى إسرائيل، خلال عامَي 1949 و1950.
أُرسِل القادمون الجدد إلى مراكز الهجرة، ثم إلى معسكرات ومخيّمات مؤقّتة (عُرفت بـ"المعاباروت")، والتي رفضت الحكومة تسميتها "مخيّمات اللاجئين"، على الرغم من أن هذا هو بالضبط ما كانت عليه. وبينما تروي الأسطورة الإسرائيلية الزائفة قصة دولة فتحت ذراعيها للجميع، أُنشئت لتكون ملاذاً آمناً لكل اليهود، فإنّ الواقع كان مختلفاً؛ إذ كان هناك شعور واسع بكراهية المهاجرين والأجانب -حتى ضد الناجين من الهولوكوست النازي- من قِبل اليهود الذين استقرّوا فيها سابقاً.
كان أحد أهداف آلة الدعاية الصهيونيّة، شيطنة كل ما هو "عربي". فبينما كان مصطلح "أشكنازي" يُستخدم لوصف اليهود من أصل أوروبي، لم يكن هناك مصطلح جامع بعد لليهود القادمين من "الشرق". ولغاية مدروسة، رفض الصهاينة استخدام كلمة "عربي" لوصف أي يهودي. فالكلمة العبرية "عرافي"، كانت مخصّصةً حصراً للتعبير عن "العدو". وبالنسبة لهم، كان الجمع بين الكلمتين "يهودي وعربي" تناقضاً من الدرجة الأولى ولا يُحتمل.
ولهذا، صاغ بعض الناشطين والمثقّفين من تلك الفئة المستهدفة مصطلح "مزراحي"، أي "شرقي". غير أنّ هذا المصطلح كان -بجانب كونه أوروبيّاً في جوهره- غير منطقي جغرافيّاً أحياناً، فمثلاً، تقع عاصمة بولندا في أقصى الشرق من عاصمة ليبيا، وعدد من الأراضي التي وُصفت بأنها "شرقيّة" تقع جنوب أوروبا أكثر من شرقها.
كذلك، فإنّ اللهجات التي كان يتحدّث بها اليهود القادمون من البلدان العربية والإسلامية -مثل العربية اليمنية، والعربية المغربية، والعربية العراقية وما إلى ذلك- تطلّبت تسميات جديدةً، فاختُرِعت مصطلحات عبرية مثل "تيمانيت" Temanit، "مروكاييت" Morocayit، و"عيراقيت" Iraqit، كأسماء رمزية لتلك اللهجات لتجنّب ذِكر كلمة "عربية". ومع مرور الزمن، وبسبب الدفع الشديد للاندماج في اللغة العبرية الحديثة، اندثرت هذه اللغات جيلاً بعد جيل، وإن لم تُمحَ تماماً.
رفض الصهاينة وجود "العرب اليهود" كهوية، ولم يُراعَ أنّ أحد المصطلحَين يُشير إلى منطقة جغرافيّة و/ أو ثقافة، والآخر إلى ديانة. وبذلك فُرضت ثنائية زائفة وتمييز بين فئتين لا تتعارضان بالضرورة. في أي رسم منطقي لفهم الهوية البشرية، من الطبيعي أن تتقاطع تلك الدوائر وأن يكون هناك تداخل بين الجغرافيا والدين. كان هذا جزءاً أساسيّاً من نظرية المجموعات. ومع ذلك، كدليل على فعالية التلقين الصهيوني، نادراً ما نجد "مزراحي" -إلا أولئك الأكثر تقدّميةً منهم- يعترف بكونه من أصل عربي. بل إن العديد منهم يرفضون الفكرة بغضب -كما يفعل أفراد من عائلتي- برغم كونها واقعاً جغرافيّاً، وللبعض منّا، حقيقةً ثقافيةً ومصدر فخر.
كان هذا التوجّه، ولا يزال، إقصائياً ولاإنسانياً. لقد فصل الشعوب إلى مجموعات متناقضة: "عرب" و"يهود"، وفرض نظام تصنيف يمكن أن يُمزّق الكيان البشري. الناس ليسوا ملفّات صُمّمت لتُقسّم بسهولة داخل مجلّدات. وبجانب التهجير الجسدي، حصل تشريح ثقافي حيّ؛ إذ طُمِسَت تقاطعية الهويّات للكثيرين، من خلال تلاعبات تهدف إلى اقتلاعهم من أوطانهم وأراضيهم الأصلية التي توارثوها جيلاً بعد جيل. وتعمّق الجرح بهذه الثنائية الزائفة، لكن ذلك أيضاً كان مقصوداً.
في عام 1965، نُشرت آراء دافيد بن غوريون، حول هؤلاء المهاجرين الجدد، في إحدى أشهر المجلات الأمريكية، حيث قال: "[اليهود] من المغرب ليس لديهم تعليم، وعاداتهم مثل عادات العرب... ثقافة المغرب لا أرغب في وجودها هنا. ولا أرى ما الذي يمكن أن يقدّمه الإيرانيون [اليهود] الحاليون". وبعد أربعة أشهر، صرّح في مقابلة مع صحيفة "لوموند" الفرنسية: "لا نريد للإسرائيليين أن يصبحوا عرباً. من واجبنا أن نحارب روح الشرق، لأنها تُفسد الأفراد والمجتمعات، والحفاظ على القيم اليهودية الأصيلة كما تبلورت في الشتات". عقّبت الكاتبة البريطانية راشيل شابي، ذات الأصول اليهودية العراقية، على ذلك في كتابها الصادر عام 2008: "لا بد أنه كان يقصد الشتات الأوروبي فحسب".
وفي مناقشة برلمانية عام 1951، حول تعليم المهاجرين، حدّد بن غوريون، هدفه للجالية اليمنية: "اليهودي اليمني هو في المقام الأول يهودي، ونريد تحويله بقدر الإمكان وبأسرع ما يمكن من يمني إلى يهودي". لم يكن مسموحاً أو ممكناً أن يكون الشخص عربياً ويهودياً في آنٍ واحد بحسب فكر مؤسّسي إسرائيل. فالنظرية الصهيونيّة تطلّبت إعادة تعليم اليهود العرب -والمجتمع بأسره- أنّ ذلك غير وارد.
وبعد تلقّيهم هويات جديدة، وتغيير الأسماء إلى أسماء "عبرية"، وغيرها من أشكال "التطبيع السريع" -مثل الاندماج في الثقافة الصهيونية العلمانية بالقوّة من خلال إجبار اليهود اليمنيين التقليديين على قصّ خصلات شعر أطفالهم الجانبية- نُقل المهاجرون إلى مخيّمات اللاجئين. حصلوا على خيام رديئة، وعندما ازدحمت المعسكرات، نام البعض في العراء. بعد زيارة في خمسينيات القرن العشرين، صوِّرت فيها الظروف الصادمة، قال المدير التنفيذي للمجلس الأمريكي لليهودية، الحاخام إلمر برغر: "يتساءل المرء لماذا، مع متوسّط دخل سنوي يبلغ نحو 50 مليون دولار من اليهود الأمريكيين، ومع تشييد مبانٍ فاخرة لوزارة الخارجية... يُترك هؤلاء الناس ليعيشوا على هذا النحو... ربما يكون هذا 'استعراض' لإقناع المتردّدين في التبرّع لـ'النداء اليهودي الموحد'".
في تلك المخيّمات، كانت وفيات الأطفال أو اختفاءهم يتكرّران بشكلٍ ومعدّلٍ مقلقين. وبعد سنوات، كُشف أن كثيراً من الأطفال الذين اعتُقِدَ أنهم ماتوا بناءً على ادّعاءات موظّفي المستشفيات الذين لم يقدّموا شهادات وفاة لجميع الحالات ولم يُسلّموا جثث الأطفال، وهو أمر غير اعتيادي بسبب التركيز على الدفن السريع في اليهودية، قد سُرقوا وأُعطوا لعائلات أشكنازية، غالباً من "الناجين من الهولوكوست ممن كانوا بلا أطفال". كان يُنتقى الأطفال ذوو البشرة الفاتحة عمداً لـ"التبنّي". في هذه الفضيحة الموثّقة والمعروفة اليوم بـ"قضية أطفال اليمن"، لعبت المنظمة النسائية الصهيونية العالمية (WIZO)، وغيرها من المنظّمات "الرعائيّة"، تحت إشراف السلطات الحكومية، دوراً محورياً في تسهيل سرقة الأطفال من العائلات اليهودية ذات الأصول العربية والشمال إفريقية. كانت الغالبية العظمى من الأطفال المفقودين من عائلات يمنية، حيث سُجّلت حالات اختفاء تصل إلى طفل واحد من بين كل ثمانية. سُرِق ثلاثة رُضّع من عائلتي. كانت هذه محاولة أخرى لهندسة مجتمع يهودي، لكنه مجتمع يتوافق فقط مع الأيديولوجيات والمعايير الصهيونية. وبعد سنوات، قامت وزارة الجيش الإسرائيلية، عن طريق الخطأ، بإرسال مئات من إشعارات التجنيد إلى الآباء البيولوجيين الذين كانوا يعتقدون أن أطفالهم ماتوا أو لا يزالون مفقودين.
كانت معسكرات استقبال المهاجرين، التي استوعبت جنسيّات متعدّدةً، تُفضّل استقبال المهاجرين الأشكناز وإيواءهم، بينما نُقِل اليهود القادمون من البلدان العربيّة والإسلاميّة إلى مخيّمات اللاجئين -التي كان معظمها على أطراف إسرائيل- حيث شكّلوا الأغلبية الساحقة، واعتُبرت ظروفها غير مقبولة للأشكناز. وفي اجتماع مع بن غوريون، أعرب رئيس دائرة الاستيعاب عن قلقه بشأن توفير السكن للمهاجرين البولنديين الجدد قائلاً: "لن نتمكّن من وضع البولنديين في الأكواخ، فهم بحاجة إلى سكن لائق". أما "المزراحيون"، فقد تحمّلوا ظروفاً بائسة بينما كانت السلطات تقرّر على أي المستنقعات، أو البؤر الصحراوية، أو القرى المفرغة -التي أُخليت بالقوة وبعنف من سكّانها الفلسطينيين ليستفيد منها الإسرائيليّون الجدد- سيتم توزيعهم. وأُرسل الآلاف لاحقاً للعيش في أحياء فقيرة مكتظّة.
كانت العائلات اليائسة والحائرة غير قادرة على التواصل بلغة الأرض الجديدة. فبالنسبة لليمنيين، لم تكن اللغة العبرية القديمة التي كانوا يعرفونها ويتحدّثون بها هي اللغة المتداولة؛ بل فُرضت نسخة حديثة منها. وكما عبّر عنها المفكر المزراحي والناشط الاجتماعي يهودا شنهاف، فإنّ أيّ إصرار على "ذاكرة مزراحيّة ضمن خريطة الذاكرة الوطنيّة الإسرائيليّة الصهيونيّة" سيُعدّ في المستقبل عملاً "يُنكَر باستمرار كصوت إثنيّ عرقيّ متمرّد ومخرّب".
كان يهود اليمن يتحدّثون اللغة العربيّة، بالإضافة إلى لهجة يهوديّة عربيّة يمنيّة خاصّة، استخدموها في الحديث والقراءة والغناء، وكانت تُكتب بالحروف العبرية كما كان يفعل يهود ليبيا الناطقون بالعربية، برغم أن القلّة المتعلّمة فقط منهم كانت قادرةً على الكتابة. وكانوا أيضاً يقرأون ويتحدّثون الآرامية، الضرورية لدراسة الترجوم (النسخة الآراميّة من التوراة، وهي نص أساسي في الطقوس الدينية اليمنية حتى اليوم)، بالإضافة إلى قراءاتهم لـ"الزوهار" وغيره من النصوص القبالية. كما تحدثوا وقرأوا العبرية التوراتية، التي كانت تُستخدم بشكل محادثاتي وكلغة طقسيّة تُعرف باسم "ليشون هاكوديش"، أي "اللغة المقدّسة". وكانت هذه العبرية التوراتيّة -مع تعديلات مختلفة- تُستخدم باستمرار من قبل اليهود اليمنيين منذ استقرارهم في اليمن وحتى زمن عمليات النقل الجوي لترحيلهم. أحياناً، كانت جميع هذه اللغات الأربع -العربيّة اليمنيّة، والعربيّة اليهوديّة اليمنيّة، والآرامية، والعبرية التوراتيّة- تُمزج معاً في عبارة واحدة، ما خلق لغةً مشفّرةً لا يفهمها الغرباء. كانت هذه العبرية التوراتيّة غير مفهومة بشكل كلّي تقريباً لمتحّدثي العبرية الحديثة في إسرائيل، خاصّةً بسبب نطقهم حرف "العين" (وهو حرف موجود في كل من العربيّة "ع" والعبرية "ע")، الذي يتجنبه معظم المتحدثين بالعبرية الحديثة، ولهجاتهم التي عُدّت ثقيلةً ومشبعةً بالتأثيرات العربيّة. أُرسل اليمنيّون إلى صفوف لتعلّم كل شيء من جديد.
جذور العائلة
وُلد جدّي، حايم (חיים ,Haim) -واسمه يعني "الحياة"- في قرية حاز (חאז ,Haz) شمال غربي صنعاء. جاء من سلالة نجّارين، وهي مهنة انعكست في اسم عائلتنا: نجّار (נגר، Nagar). كانت هناك 80 عائلةً تحمل هذا الاسم في حاز. في اليمن، كان يُنطق الاسم "نجّار"، لكن في إسرائيل تمت "عبرنته" وكتابته بما يتناسب مع العبرية الحديثة. كل الأصوات التي تحتوي على "ج" -والتي لا يوجد لها مكافئ في الأبجدية العبرية الحديثة- تحوّلت إلى "ك"، وأصوات "ث" تحوّلت إلى "ت"، أما الصوت الحلقي الفريد الواقع بين "ك" و"ج" (ق)، فقد استُبدل بـ"ك" صلبة. كان كل هذا المحو الشفهي كفيلاً بأن يُصيبك بالدوار.
عندما تلقّى يهود اليمن التعليمات بالهجرة، قامت عائلة جدّي برحلة شاقّة على الجِمال والحمير إلى مدينة لحج. استغرقت الرحلة 13 يوماً. يتذكّر حايم، كيف أنّ التجّار كانوا يمرّون أيام الإثنين والخميس، ويبيعون البضائع ويساعدون في توجيه المسافرين. كان هؤلاء التجّار يرشون اللصوص على الطريق نيابةً عن اليهود. يقول حايم: "كانوا يقولون لهم: هؤلاء أصدقاؤنا، دعوهم يمرّون". كانت كل العائلات تدفع وتواصل رحلتها، غالباً ليلاً. كان حايم، في السابعة عشرة من عمره، ويتذكّر أنه كان يركب الجمل جنباً إلى جنب مع ابن عمّه، بينما يتوازن شقيقان على الجانب الآخر.
تلاعب، واندماج قسري، وسرقة مقتنيات نفيسة، و"أسرلة" إجبارية ثقافياً ولغوياً، وتحقير وتمييز… القصّة الحقيقية ليهود إسرائيل العرب كما ترويها يهوديّة يمنيّة
مكثت العائلة أسبوعاً في لحج، قبل أن تتابع إلى حاشد، قرب عدن. وُجهوا إلى معسكر "جيولا" (بالعبرية تعني "الخلاص")، وهو معسكر أُنشئ وأُدير من قبل صهاينة من لجنة التوزيع الأمريكية اليهوديّة المشتركة (JDC)، بالتنسيق مع الوكالة اليهوديّة لإسرائيل التي تشرف على تهجير اليهود إلى إسرائيل. أمضت العائلة ثلاثة أشهر في ظروف بائسة في مخيّم مكتظّ تم تجاوز طاقته الاستيعابية 14 مرةً، مع نقصٍ شديد في الغذاء. تحت إشراف اللجنة المشتركة، توفي 429 يهوديّاً يمنيّاً، معظمهم من الأطفال، ويُقدّر أنّ 200 إلى 250 توفّوا في الطريق إلى المعسكر، بعضهم من الجوع. فشلت اللجنة في تسهيل عبور الحدود من شمال اليمن (مملكة اليمن المتوكليّة)، إلى عدن الخاضعة للاحتلال البريطاني. عند إدراك مدى "هول الظروف المروّعة" في هذه المعسكرات، سأل أحد موظّفي قسم الاستيعاب، اللجنة التنفيذية الصهيونيّة: "لم نُحضّر أي معسكرات أو منازل [للمهاجرين اليمنيّين]، فماذا عليّ أن أفعل؟ أضع أسلاكاً شائكةً وأحبسهم كأنهم حيوانات في حالة من الوهم". وبحلول الوقت الذي استقلّ فيه المهاجرون اليمنيّون طائرات المغادرة بعد أشهر -أو أكثر من سنة- من الانتظار في المخيّمات التي تديرها الصهيونيّة، كان متوسط أوزانهم نحو 39 كيلوغراماً فقط.
غادر والدا حايم وإخوته الأكبر سناً أولاً، بينما تأخّر هو وأخوه يوسف في معسكر حاشد سبعة أشهر إضافية في انتظار تأشيراتهم. خلال هذه الفترة، عمل حايم ويوسف في دفن جثث اليهود الذين ماتوا في "جيولا". يتذكّر حايم، حرارة الشمس اللاهبة في أثناء الحفر في الرمال، إذ كان يتجرّد من ملابسه ما أمكنه لتحمّلها، ويتقاضى أجره بـ"الروبيات" (عملة يمنيّة صغيرة شبيهة بالبنس، أصلها من الروبية الهندية).
شجّع الصهاينة اليمنيّين على أخذ أهم مقتنياتهم الثمينة، والقليل من أي شيء آخر. ومن بين الممتلكات التي رفض جدّي الأكبر، يشوع، التخلّي عنها وأصرّ على حملها معه برغم ثقلها، صندوقان خشبيّان يحتويان على كتب دينية، كانت الغالبية العظمى منها مكتوبة بخطّ اليد. في ذلك الوقت، كانت الكتب في اليمن من المقتنيات المقدّسة والنادرة والباهظة الثمن. صودر الصندوقان في مخيّم جيولا، وعند وصول جدّي إلى إسرائيل، لم تكن هناك أي آثار لهما. قيل له إنهما نُقلا إلى حيفا وأُحرِقا. غضب جدّي الأكبر وسافر إلى حيفا، لكن ما أعيد إليه لم يكن سوى الكتب المطبوعة، أما الكنوز المكتوبة يدويّاً فلم تُعَد إليه. نعتقد أن هذه الكتب الآن موجودة في مكان ما ضمن أرشيفات إسرائيل أو في أيدي هواة جمع التحف. وهذه ليست قصّةً فريدةً من نوعها. فقد سُرقت أيضاً من مجتمعنا لفائف توراة ثمينة (وهي بطبيعتها جميعاً مكتوبة يدويّاً على الرقّ)، بالإضافة إلى المجوهرات، والتطريزات، والذهب والفضّة، وكتب قديمة أخرى. كثير من هذه الأغراض ظهر لاحقاً، بشكل غامض، في المتاحف، أو بيد تجّار آثار، أو ضمن مقتنيات الجامعات.
يتبع ...
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news