مصطفى محمود
28/5/2025م
في لحظة توازن هشّ بين العاصفة والفراغ، وفي زمن عربي يتآكل فيه مفهوم الدولة الوطنيه ، تحط طائرة الرئيس اليمني رشاد العليمي في موسكو، لا كحدث بروتوكولي مألوف، بل كمشهد مفعم بالدلالات، يستدعي سرديات التاريخ الثقيلة، ويطرح أسئلة المستقبل الحرجة.
موسحكو، عاصمة، الأيديولوجيات المتحوّلة، تستقبل الرجل القادم من جنوب جزيرة العرب المحترق، لا بصفته ممثلًا لكيان سياسي مؤقت، بل بوصفه حاملًا لإرادة بقاء وطن على حافة التلاشي.
لقاء العليمي ببوتين لم يكن مجرّد تبادل كلمات دبلوماسية، بل لحظة تقاطع بين نظام دولي يتشكل من رماده، ودولة يمنية تبحث عن ذاتها في ركام صراعاتها.
يأتي العليمي إلى روسيا لا من موقع التابع، ولا من بوابة المحاور التقليدية التي شلّت القرار اليمني لعقود، بل بوصفه فاعلًا يحاول إعادة إنتاج السياسة بوظيفتها الأصلية: فنّ التوازن بين الممكن والمطلوب، بين الوطني والكوني، بين موازين القوى ونبض الأرض.
في لقائه مع بوتين، لا تُقرأ الكلمات بظاهرها فقط، بل بظلّها الطويل: دعم روسي متجدد للشرعية، لا يعني فقط مساندة العليمي، بل اعتراف ضمني من موسكو بأن اليمن لا يزال رقمًا في معادلة الشرق الأوسط، لا مجرّد فراغ قابل للملء من قِبل الميليشيات أو المشاريع العابرة للحدود.
لروسيا تاريخ قديم في اليمن، تاريخ لم يُمحَ رغم تبدّل الأنظمة وتلاشي الأيديولوجيات. فالاتحاد السوفيتي الذي علّم آلاف اليمنيين، وشارك في بناء الدولة بعد ثورتي الشمال والجنوب، لم يكن مجرد حليف، بل أحد مهندسي الوعي السياسي اليمني الحديث.
اليوم، تأتي زيارة العليمي كإعادة استدعاء لهذه الصداقة القديمة، لا بمنطق النوستالجيا، بل من بوابة المصالح المتبادلة: روسيا الباحثة عن شراكات خارج مدار العقوبات الغربية، واليمن الباحث عن صوت ثالث في عالم انقسم بين المحاور والميليشيات.
بوتين، وهو يستمع للعليمي، يدرك أن اليمن ليس دولة هامشية، بل خاصرة حيوية لنظام الملاحة العالمي، وصدى مباشر لصراعات الخليج والقرن الأفريقي. ولذلك، فإن الالتزام الروسي بالشرعية لا يُفهم فقط كدعم سياسي، بل كإعادة تموضع جيوسياسي في منطقة يتهددها الانهيار الكامل.
في موسكو، وضع العليمي الرئيس الروسي أمام مرآة اليمن: بلد تحاصره جماعة مسلحة تُعلي النسب على الدستور، وتؤسس لنظام كهنوتي يتناقض مع كل ما عرفه العصر الحديث من مفاهيم الحكم.
لكن ما لم يُقل، هو الأهم: العليمي نفسه، ابن الدولة المدنية، يحمل على كتفيه عبء بناء جمهورية ثانية، بلا جمهوريين حقيقيين، ولا مؤسسات صلبة. يحمل عبء التحول من “الشرعية” كشعار، إلى “الشرعية” كمؤسسة قابلة للحياة.
هذه الزيارة ليست فقط رسالة لروسيا، بل تذكير للمجتمع الدولي بأن اليمن ليس ملفًا إنسانيًا فقط، بل سؤالًا سياسيًا يجب الإجابة عليه: هل يمكن إعادة بناء دولة على أنقاض الحرب، أم أن الهشيم أكل جذور المشروع برمته؟
في المعنى العميق للسيادة في زمن تفككت فيه الجغرافيا العربية إلى جزر من الطوائف والمصالح الأجنبية، تكتسب زيارة العليمي لموسكو طابعًا وجوديًا. إنها محاولة
في المعنى العميق للسيادة في زمن تفككت فيه الجغرافيا العربية إلى جزر من الطوائف والمصالح الأجنبية، تكتسب زيارة العليمي لموسكو طابعًا وجوديًا. إنها محاولة لتثبيت مفهوم السيادة، لا كسلطة، بل كقدرة على اتخاذ القرار خارج الوصايات المعلنة والمضمرة.
العليمي لم يذهب إلى موسكو ليطلب حماية، بل ليبني شبكة مصالح. ذهب ليقول إن اليمن ما يزال هنا، وإن الفاعلين الدوليين ملزمون بالتعامل مع مؤسسة رئاسية شرعية، لا مع أمراء حرب ولا وكلاء قوى أجنبية.
في هذا المعنى، تبدو موسكو أكثر من مجرد محطة دبلوماسية، بل اختبارًا أخلاقيًا للعالم: هل ما زال يعترف بالدول التي تناضل من أجل البقاء، أم أنه قرر مكافأة الفوضى وشرعنة السلاح الخارج عن القانون؟
زيارة الرئيس رشاد العليمي لموسكو ليست صفحة عابرة في دفتر العلاقات الخارجية، بل منعطف في مسيرة دولة تحاول أن تعود من حافة الانقراض. في اللقاء بين الرجلين، لم يلتقِ الشرق بالشرق فقط، بل التاريخ بالحاضر، والواقعية السياسية بحلم الدولة.
وكأن الزمن اليمني، بكل جراحه، دخل مؤقتًا في مدار أوسع، يسأل: ما معنى أن تكون دولة في زمن اللا-دولة؟ وما جدوى السياسة إن لم تكن دفاعًا عن كرامة الإنسان؟
في هذه الزيارة، تتجلى معاني السياسة كفنّ إعادة التوازن، وكفلسفة للبقاء. إنها محاولة لاستعادة الهوية اليمنية، وتثبيت مفهوم السيادة في زمن اللا-يقين.
تعليقات الفيس بوك
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news