يمن إيكو|قصة اقتصادية:
احتفلت فيتنام مؤخراً باليوبيل الذهبي لانتصارها على الولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة تحقيق وحدتها الوطنية التي أحدثتها سنوات الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، غير أن السؤال اللافت في التجربة الفيتنامية هو: كيف تمكنت من التغلب على التحديات الاقتصادية، التي كانت تواجهها في عام 1975م، وكيف كسرت العزلة والعقوبات الأمريكية، وحققت معدلات نمو عالية.. لكن قبل الإجابة على هذه الأسئلة، يجب الذهاب إلى تأصيل تاريخي لحيثيات انقسامها إلى دولتين بنظامين متصارعين.
خلفية تاريخية
في القرن التاسع عشر، كانت فيتنام- التي تقع في جنوب شرقي قارة آسيا، وتحدها الصين شمالاً، ولاوس وكمبوديا غرباً، وبحر جنوب الصين من جهتي الشرق والجنوب- ترزح تحت الاستعمار الياباني، ثم الفرنسي، وذلك قبل تقسيمها، وخلال الفترة 1946-1954م، نشبت الحرب الهندوصينية الفرنسية التي انتهت بخروج فرنسا من معادلة القوى الاستعمارية المتصارعة في فيتنام، بموجب اتفاقيات جنيف التي وقعت في 20 يوليو 1954م وقضت بتقسيم فيتنام إلى شطرين: “فيتنام الشمالية”: شيوعية، بقيادة هو تشي مينه (تدعمها بكين وموسكو) و”فيتنام الجنوبية” موالية للغرب، بقيادة نغو دينه ديم، كما نصت على إجراء انتخابات وطنية في عام 1956 لتوحيد البلاد، لكن الانتخابات لم تُجرَ، ولم يحل السلام، ولم تعد وحدة البلاد، إنما دخلت حرباً داخلية تعكس الصراع الإيديولوجي الشيوعي والرأس مالي.
وفي مطلع ستينيات القرن الماضي، أحست الولايات المتحدة أنه حان الانقضاض على فريستها فيتنام الشمالية فبدأت تدفع بقواتها ومعداتها العسكرية الهائلة، تدريجياً إلى أرض المعركة بدعم وتسهيلات ميدانية من حكومة فيتنام الجنوبية، ومن حينها ضاعفت واشنطن قواتها في فيتنام الجنوبية خلال النصف الأول من الستينيات إلى قرابة ٢.٧ مليون جندي، في ٨ مارس ١٩٦٤م بدأت القوات الأمريكية خوض معركة شبه مباشرة ضد قوات فتنام الشمالية، وفي ٢ أغسطس من العام نفسه زعمت أمريكا أن قوات فيتنام الشمالية هاجمت سفنها الحربية في خليج تونكين الذي يعد جزءاً من بحر الصين الجنوبي، أي شمال فيتنام، وكان ذلك الحادث ذريعة واضحة لتدخل واشنطن المعركة بكل ثقلها العسكري.
التصعيد الأمريكي بكل ذلك العنف، دفع بقوات فيتنام الشمالية إلى بدء حرب عصابات استمرت بفاعلية كبيرة وصمود أسطوري، ما أدى إلى خسائر كبيرة في صفوف الأمريكيين، ألقت بظلالها على وحدة الرأي العام الأمريكي، تحت ضغط خسائرها البشرية أمام القوات الفيتنامية، وانقسام الرأي العام الأمريكي الداخلي، أعلنت واشنطن مجبرة قبولها بتوقيع اتفاقية باريس للسلام مع فيتنام الشمالية في 27 يناير 1973م، وفي ٢٩ مارس من العام نفسه انسحبت القوات الأمريكية، بهزيمة مذلة كبدتها قتل حوالي 58 ألف جندي أمريكي وأصيب 304 آلاف آخرين. حسب التقارير الدولية، التي أكدت مقتل ملايين الفيتناميين في مقاومة القوات الأمريكية.
وفي 30 أبريل من عام 1975م استعادت القوات الفيتنامية مدينة سايجون، عاصمة فيتنام الجنوبية، مما أدى إلى توحيد فيتنام بعاصمة واحدة هي هانوي وتحت نظام شيوعي برئاسة تون دوك تانغ، لتبدأ معركة بناء الاقتصاد الذي ظل يرزح تحت العقوبات والهيمنة الأمريكية.
إصلاح السياسات الاقتصادية
الحرب الفيتنامية ضد القوات الأمريكية على مدى عشرين عاماً وضعت اقتصاد فيتنام على حافة الانهيار، فضلاً عن اعتماده آنذاك على زراعة وتصدير الأرز كمصدر رئيس للدخل، حيث كان يعمل أكثر من 70% من القوى العاملة في زراعته، لكن الحرب أثرت بشكل كبير على إنتاج الأرز الذي لم يعد كافياً لإطعام السكان، كما تجاوزت معدلات التضخم نسبةً غير مسبوقة بلغت 770%، ولم تُجدِ المساعدات الدولية القليلة التي كان يعتمد عليها الاقتصاد في حل الأزمة التي استمرت حتى منتصف الثمانينات، خصوصاً مع استمرار الحظر التجاري الذي فرضته واشنطن في عام 1980م على فيتنام، في محاولة للحد من نهضتها الصناعية.
وفي عام 1986 وصل “نيجوين فان لين” لرئاسة الحزب الشيوعي، ليحدث تحولاً جذرياً كاملاً في السياسات الاقتصادية رغم استمرار الحظر، حيث أطلق ما عرف باسم “دوي موي” وهي حزمة من الإصلاحات اعتُبرت حجر أساس في تحول الاقتصاد المحلي من المركزية إلى اقتصاد السوق عبر إصلاح القوانين الخاصة بتملك الأراضي الزراعية، وبموجبها منحت الحكومة الحرية للمزارعين في زراعة أراضيهم وفقاً لرغباتهم، كما منحت كل أسرة الحق بتملك 3 هكتارات ضمن عملية ضخمة لتوزيع الأراضي الزراعية، لتصبح فيتنام ثالث أكبر مصدر للأرز في العالم عام 1989.
وشملت السياسات الاقتصادية الجديدة تعديل القوانين الخاصة بالاستثمارات الأجنبية، فاتحة الباب على مصراعيه لتطوير الصناعات الفيتنامية بشكل متسارع، في تحول جعل واشنطن تشعر بنتائج عكسية لحظرها التجاري؛ إذ عزز دوافع الفيتناميين للنهوض الذاتي وتطوير البينة التحتية في شتى المجالات، خصوصاً شبكة الطرق والكهرباء والاتصالات، وفق تطور متسارع جسر الفجوة التنموية بين الأرياف والمدن، وجرى كل ذلك اعتماداً على الموارد المحلية، فأعلنت واشنطن رفع الحظر التجاري عام 1994.
الصناعات الرئيسية لفيتنام
لم يكن إعلان الحظر الأمريكي مهماً بالنسبة لحكومة فيتنام التي فعّلت كل مواردها المحلية وفجرت الطاقات البشرية الكامنة في المجتمع الذي يشعر بالانتصار العسكري والاقتصادي، لكنه شكل إضافة نوعية لما كانت قد شهدته البلاد من نهضة إنتاجية وبنيوية وقانونية، فارتفعت قيمة استثمارات رأس المال الأجنبي لما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجاوز عدد الشركات الخاصة الناشئة 17 ألف شركة، وشهدت البلاد نهضة صناعية غير مسبوقة أسهمت في النمو الاقتصادي السريع.
ولعل أبرزها صناعة الإلكترونيات، حيث تُعد فيتنام وجهة رئيسية لشركات التكنولوجيا العالمية، حيث تنتج أجزاء من الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية، كما تشتهر بكونها من كبار المنتجين والمصدرين للملابس والمنسوجات والأحذية والجلديات عالية الجودة، حيث تستفيد من قوتها العاملة الكبيرة والمدربة، بالإضافة إلى صناعة الأثاث عالي الجودة، الذي يُصدّر إلى العديد من دول العالم، كما تعد أهم وجهات السياحة العالمية.
وبهمة عالية واصلت دولة فيتنام عملية إصلاح السياسات الاقتصادية وبما يواكب التطورات العالمية، فوفرت بيئة استثمارية مشجعة منفتحة على كل الدول الشيوعية والرأسمالية، وفق سياسة جذبت رؤوس أموال أجنبية كبيرة، وفي عام 2008 دخلت شركة “سامسونج” (عملاق الإلكترونيات الكوري الجنوبي) فيتنام برأس مال يعادل 670 مليون دولار، وفي عشر سنوات فقط بلغت القيمة التراكمية لاستثمارات الشركة 17 مليار دولار، ممهدة الطريق أمام الشركات العالمية المصنعة للإلكترونيات وعلى رأسها شركة “إنتل” الأمريكية التي افتتحت منشأة لتجميع واختبار أشباه الموصلات بقيمة مليار دولار، وضخت استثمارات إضافية خلال عامي 2019 و2020، وصلت قيمتها الإجمالية إلى 1.5 مليار دولار، فعادت تلك الاستثمارات على الدخل القومي بـ58 مليار دولار عام 2018، وارتفعت قيمة صادرات فيتنام من الإلكترونيات وأجهزة الحاسوب ومكوناتها بمعدل سنوي بلغ 28.6%.
وفي 2020 فرضت واشنطن عقوبات على شركة فيتنامية بحُجة علاقاتها التجارية مع إيران، وتبعاً لذلك أعربت وزارة الخارجية الفيتنامية عن أسفها لهذا القرار، مؤكدة أن العلاقات التجارية بين فيتنام وإيران شفافة وقانونية، وأن فيتنام تحترم قرارات الأمم المتحدة، وأكدت أنها منفتحة في علاقاتها التجارية مع الجميع.
مؤشرات النمو الاقتصادي (خلاصة)
إن فيتنام، وهي تحتفي باليوبيل الذهبي لانتصارها على الولايات المتحدة الأمريكية، وبإعادة وحدتها الوطنية، تحتفل بانتصارها الاقتصادي كمعيار حقيقي لمعاني النصر، بعد أن صعد اقتصادها من ركام الدمار، إلى مصاف الاقتصادات الناشئة في العالم، حيث وصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 6.00% في عام 2025، وفقاً لنماذج الاقتصاد العالمي، وبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 4282.10 دولار أمريكي في عام 2023، ومن المتوقع استمرار نمو هذا المؤشر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news