دخل الجنوبيون شركاء في الوحدة ووصلت كوادرهم إلى صنعاء وتقبلتهم النخبة الشمالية في البداية ولكن على مضض، أو على أمل ابتلاعهم فردًا فردًا وإغرائهم بالأثاث الفاخر والسيارات الحديثة والمواكب والميزانيات.
سلّم الجنوبيون دولتهم على أساس أن تذوب دولة الشمال بدورها في كيان جديد هو كيان دولة الوحدة، بمعنى أن تذوب آليات وأساليب العمل القديمة لتحل محلها تقاليد ولوائح وأنظمة جديدة يتم فيها الأخذ بالأفضل من الجانبين.
ما حدث هو أن الوزير الجنوبي كان محاصرًا بنائب شمالي صلاحياته أوسع واتصالاته مسموعة وتحركاته تصنع الكثير، بينما الوزير مُكبّل ويتحرك وسط بيئة إدارية تمتاز بالفهلوة والشطارة والغش والفساد والغموض في الميزانيات والإيرادات. أما عندما يكون الوزير من نخبة الشمال والنائب جنوبيًا، فالحال يكون أسوأ لأن النائب ساعتها يشعر بنفسه أقل من درجة مدير عام ويمكن أن يحظى مدير الشؤون المالية أو شؤون الموظفين بأهمية تفوقه ويجد نفسه وحيدا لا يطرق بابه أحد.
أتذكر أن مديرًا عامًا في جهة حكومية منع الموظفين من التعامل مع نائبه الجنوبي، ومن تجرأ وطلب إجازة ووافق عليها النائب كان المدير يعتبرها لاغية ويسجل الموظف على أنه غائب بدون إجازة، وأقسم أن هذا حدث حرفيًا.
كان المطلوب من النخبة التي جاءت من عدن أن تذوب في الشمال وأن تتعلم نهج النظام وأسلوبه في الجمهورية العربية اليمنية، لأن الوحدة كانت في نظر الرئيس علي عبدالله صالح مجرد تغيير للاسم الرسمي للدولة بإزالة “العربية” لتبقى “الجمهورية اليمنية”، دون أن يتم المساس بتقاليدها الإدارية وأسرارها وأساليب تعاملها ونهجها المالي الفوضوي، بما في ذلك الازدواج الوظيفي والحشو في سجلات الموظفين في القطاعين المدني والعسكري والعبث بسجلات الناخبين التي تسمح للبعض بالتصويت في أكثر من دائرة، وقس على ذلك.
لاحقت الاغتيالات قيادات اشتراكية لمس النظام تصلبها وعدم مرونتها ومطالبتها بإصلاحات جذرية تجعل من الوحدة حدثًا له أثره على أرض الواقع في السلوك الدولتي. ومن الذين نجوا من الاغتيالات أو محاولات الاغتيال – وبعضها كانت تحذيرية – وزير العدل والدكتور ياسين سعيد نعمان رئيس مجلس النواب حينها وحيدر العطاس رئيس الوزراء. أما الذين تم اغتيالهم بالفعل فهم كثر، أشهرهم ماجد مرشد وحسن الحريبي وآخرون من كوادر الحزب الاشتراكي بينهم قادة كبار من أركان وزارة الدفاع ودوائرها وبعض الأجهزة.
لم يجد علي سالم البيض، الذي صار نائب رئيس جمهورية الدولة الموحدة، صلاحيات تشعره أنه شريك وله قيمة، وقس على ذلك بقية المناصب. وعندما كان الطرف الجنوبي القادم إلى الوحدة يتساءل عن تبعية وحدات مثل قوات الأمن المركزي التي كان يقودها شقيق الرئيس صالح الأكبر محمد عبدالله صالح، كان السؤال: لمن تتبع تلك الوحدات ومن يحدد صلاحياتها كان الرد يأتي غامضًا ويتعمد التجاهل.
الحال نفسه بشأن محاولات الطرف الجنوبي الخروج بقرار يمنع حمل السلاح في المدن وينقل المعسكرات إلى خارج العاصمة، كان أول من يقف ضد هذا القرار الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر وبتأييد من بقية النخب القبلية. وعند التساؤل بشأن إيرادات مؤسسة كبرى مثل المؤسسة الاقتصادية العسكرية التي كانت تتاجر بكل شيء من الملابس إلى اللحوم وحتى صناعة الصلصة والفول. لم يعلم أحد من يملكها ولمن تذهب إيراداتها. سأل الطرف الجنوبي عن هذه المسألة الخطيرة، فكان الرد التجاهل والتحجج بالأسرار العسكرية.
كاد الطرف الجنوبي أن يثبت أن الدولة في الشمال مزرعة إقطاعية لمجموعة متنفذين، بينما المجتمع في الشمال غير معوّل على الدولة ولا ينتظر منها تجويد الخدمات ولا توفير الوظائف، وبالذات في محافظات الوسط والأطراف حيث الناس يعملون ويزرعون ويمارسون المهن الحرة ويعلمون أبناءهم ويسافرون ويغتربون، ولا يريدون من الدولة إلا أن تخفف عنهم الضرائب والجبايات.
وصل الطرفان إلى طريق مسدود، لا علي عبدالله صالح استطاع تذويب الجنوبيين كلهم واحتوائهم وتمييع شخصياتهم ليكونوا مجموعة موظفين في دولته مثلهم مثل عبدالكريم الإرياني وعبدالعزيز عبدالغني وعبدالقادر باجمال، ولا هم قبلوا بأن يصبحوا كذلك مجرد موظفين يمتدحون الرئيس القائد ويصفونه كما يصفه الآخرون – وبينهم دكاترة مثل الإرياني – ويعتبرونه صمام الأمان ومفجر النفط وباني سد مأرب وصانع المعجزات السبع في الكوكب. لذلك حدث الخلاف والشقاق الكبير والحاسم في 1994. وعندما أُبرمت وثيقة العهد والاتفاق كانت تضع قواعد وأسسًا لبناء الدولة، لكن الرئيس علي صالح غير معتاد على قواعد يضعها له آخرون لأنه هو من يضع القواعد ويلزم غيره بالسير عليها، وكلها عشوائية ومرتجلة مثل قواعد ونفحات وتصانيف ديوان الشيخ.
كانت الدولة محتفظة بشكلها البروتوكولي وحريصة على تقاليد المراسيم أمام السفراء الأجانب، لكنها في الواقع كانت قبيلة كبيرة يقودها علي صالح من المقيل الرئاسي عبر التليفون، وهو السلوك الذي أغضب علي سالم البيض المعتاد على الاجتماعات والتوصيات والقرارات المكتوبة والتسلسل الهرمي القيادي، وليس التواصل المباشر بين الرئيس وبقية المستويات مباشرة. ولكن هذا ما اعتاد عليه علي عبدالله صالح حين كان يفاجئ الوزراء بالقيام بعملهم ويأمر ويوجه ويزور ويتفقد ويقرر.
وهكذا سقطت الوحدة على أيدي النخبة التي توحدت ثم اختلفت لتلك الأسباب، وبقيت حتى اليوم الخيوط الرفيعة التي توحد بين شعب واحد يتقاسمه الضياع والفقر وسوء الطالع وهشاشة أو انعدام الخدمات والافتقاد لمبدأ الدولة من الأساس.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news