منذ تأسيسه في العام 2017، يقدّم “المجلس الانتقالي الجنوبي” نفسه باعتباره حاملًا لقضية “استعادة الدولة الجنوبية”، لكن نظرة أعمق في بنيته الخطابية، وتكوينه السياسي، وتاريخه الخفي، تكشف أن المجلس لا يمثل الجنوب بوصفه وحدة سياسية واجتماعية جامعة، بل يمثل امتدادًا لطرف قبلي-عسكري بعينه داخل صراع جنوبي-جنوبي قديم، كما أنه يعيد إنتاج انقسامات الماضي بغطاء من الخطاب الهوياتي الانفصالي، ويعمل كأداة إقليمية إماراتية لا كمشروع وطني مستقل.
أولًا: الجنوب الاشتراكي:
في ذروة الانقسام بين شطري اليمن، لم يسقط الجنوب الاشتراكي في فخ الهويات المغلقة، فالدستور الجنوبي كان يؤمن بواحدية الجنسية اليمنية، وكان الشمالي إذا ذهب إلى الجنوب يُمنح بطاقة هوية مكتوب عليها “يمني من مواليد شمال الوطن” ويعيش هناك متمتعا بكامل حقوق المواطنة. وفي المقابل، شكلت الجبهة الوطنية الديمقراطية – المؤلفة من شماليين –السياج العسكري الأول لحماية النظام الوطني في الجنوب من تهديدات الشمال الرسمي المدعوم سعوديا. وليس لهذا من تفسير سوى أن الجنوب الاشتراكي كان شديد الإيمان بأن الهوية الوطنية يبنيها المصير المشترك، وليس محل الميلاد.
أما مدينة عدن، التي يزعم المجلس الانتقالي احتكار تمثيلها، فلم تبن بأياد جنوبية خالصة، بل تشكلت كميناء عالمي في ظل الاستعمار البريطاني، وكان سكانها من كل جهات اليمن، ومن القرن الأفريقي وشبه القارة الهندية. وكان أبناء الشمال، وبخاصة أبناء تعز والبيضاء ورداع وإب يشكلون الأغلبية بين اليمنيين في مستعمرة عدن. ووفقا لقانون المستعمرة، العدني هو كل من يولد في مدينة عدن، بصرف النظر عن أصول والديه. ولأن أبناء الشمال كانوا في عدن هم الأغلبية قياسا إلى أبناء المحميات فإن معظم المقيدين من مواليد عدن كانوا من أصول شمالية. وكان الشماليون يشكلون معظم القوة المحركة لنهضة عدن على صعيد التجارة والعمران والخدمات، وكانوا هم الأكثر حيوية بين سكان المدينة، والأكثر انخراطا في المهن التي وفرتها حياة المدينة، ومن الهنود والبينيان أخذوا كل المهن والحرف ونقلوها إلى كل اليمن. ومن بين أبنائهم المولودين في عدن، ظهر محمد مرشد ناجي، وأحمد بن أحمد قاسم، ومحمد سعد عبد الله، ومحمد عبده زيدي …الخ وعندما أخذت شعوب البلدان الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي تطالب بحق تقرير المصير، كان أول فدائي يرتقي شهيدا في عدن هو مهيوب علي غالب الشرعبي (عبود)، وكان قطاع الفدائيين في عدن يضم شماليين وجنوبيين. ونكران هذه الحقائق التاريخية هو طمس لذاكرة مدينة عدن، وتحويلها من ميناء مفتوح إلى قلعة مغلقة.
ثانيًا: أحداث 13 يناير 1986 مفتاح لفهم بنية المجلس الانتقالي:
في يناير 1986 وقعت المواجهة المسلحة في شوارع عدن بين قبيلتين، سنطلق عليهما تجاوزا، قبيلة أبين وشبوة، وقبيلة الضالع ويافع. وفي الحسابات الوطنية التي لا يستسيغها القبليون، كان المهزوم في تلك المواجهة هو الجنوب كله. أما في الحسابات الصغيرة فإن الهزيمة كانت من نصيب “قبيلة” أبين وشبوة، بينما كان النصر من نصيب “قبيلة” الضالع ويافع. وحتى لا تتعرض القبيلة المهزومة لأعمال إبادة جماعية، عبرت الحدود الشطرية إلى الشمال، وبقيت هناك في انتظار لحظة مواتية للأخذ بالثأر.
أما القبيلة المنتصرة فقد أصبحت جيشا وأمنا لدولة الجنوب بلا منازع، وفي 22مايو 1990 استدرجها علي عبد الله صالح إلى الوحدة، في إطار مخطط للضم والإلحاق عبر ثلاث خطوات: التخلص من الشخصية الدولية للجنوب؛ التخلص من جيش الجنوب؛ التخلص من الحزب الاشتراكي، ولهذا كانت حرب 1994.
في حرب صيف 1994 هزمت القبيلة التي انتصرت في شتاء 1986، وفي المقابل أخذت القبيلة المهزومة بثأرها بدخولها الحرب تحت راية علي عبد الله صالح الذي ما كان بمقدوره أن يخوض تلك الحرب القذرة وينتصر فيها بدون أبين وشبوة.
وخلاصة القول في هذه السردية: المجلس الانتقالي الجنوبي هو الامتداد السياسي والعسكري للقبيلة التي انتصرت في 1986 وهزمت في 1994. والمجلس الانتقالي بهذا المعنى حالة ثأرية، ولكن ليس ضد نظام علي عبد الله صالح وإنما ضد اليمن كله شمالا وجنوبا، ومن أجل أجندة إماراتية.
ثالثًا: الانتقالي لا يمثل الجنوب بل قبيلة في الجنوب:
من خلال تتبع التكوين القيادي للمجلس الانتقالي، وخريطة انتشاره الجغرافي، وطبيعة خطابه التعبوي، يتضح ما يلي:
1. لا يمثل أبين وشبوة وحضرموت والمهرة.
2. يتعامل بعداء معلن مع أبناء تعز، ومع الشماليين كافة، حتى مع أولئك الذين كانوا قادة في دولة الجنوب.
3.لا يعبّر عن الجنوب كتكوين وطني موحد، بل كحيازة جغرافية لطرف محدد داخل الجنوب. ومن هنا فإن الانتقالي، في جوهره، ليس حاملًا لقضية الجنوب، بل حاملًا لثأر قبلي داخل الجنوب وداخل الشمال.
رابعًا: يدّعي الانتقالي أنه يقاتل من أجل “تحرير الجنوب”، لكنه في الواقع:
1. يتماهى كليًا مع المشروع الإماراتي في اليمن.
2. يوفّر غطاءً عسكريًا لتفكيك الجغرافيا اليمنية، لصالح موانئ أبو ظبي ونفوذها الإقليمي.
3. لن يبني دولة جنوبية، بل سيُحوّل الجنوب إلى كانتونات أمنية خاضعة لوكلاء الخارج. وبدل أن يكون الجنوب محررًا من نافذي الشمال، سيكون مرتهنًا للخارج بلا سيادة، ولا اقتصاد، ولا قرار مستقل.
خامسًا: خطاب الانتقالي يؤسس لحرب أهلية لا لحل سياسي:
باستبعاده للشماليين، وإقصائه لأبناء أبين وشبوة، واحتكاره لتمثيل الجنوب، فإن الخطاب الهوياتي الذي يتبناه الانتقالي لا يؤدي إلى استعادة الدولة، بل إلى تفكيك الجنوب ذاته من الداخل، وإشعال نزاعات مستقبلية قد تتحول إلى: حرب أهلية جنوبية-جنوبية؛ أو صراع مفتوح بين الشمال والجنوب، يتغذى من الخطابات المناطقية والثأرية.. إنه خطاب يُنتج الحرب لا السلام، ويُغذي الذاكرة الجريحة لا المستقبل المشترك.
خاتمة: ما بعد الانتقالي
اليمن – شمالًا وجنوبًا – بحاجة إلى مشروع وطني جديد، لا يعيد إنتاج الثأر، ولا يتبنى خطاب النفي والإقصاء، ولا يخضع لأجندة الخارج. أما المجلس الانتقالي الجنوبي، فقد بات واضحًا أنه:
1. لا يُحرر الجنوب من الاحتلال، بل يُعيد احتلاله بالوكالة.
2. لا يبني دولة، بل يُحيي الصدع القبلي.
3. لا يحمل قضية الجنوب، بل يسجنها في خطاب الثأر والهوية الضيقة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news