أول زيارة إلى عدن!

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 234 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
أول زيارة إلى عدن!

نزلت إلى عدن من صنعاء في شهر يوليو 1990، بعد الوحدة بأقل من شهرين، وكانت حافلات النقل البري العتيقة التي تنقل الركاب بين مديريات عدن ما تزال شغالة، تتحرك بنوافذ مفتوحة خالية من الزجاج، كما لو أنها فم كهل أدرد تساقطت أسنانه بمرور الزمن. نسيت كم سعر التذكرة الواحدة لكني لم أنس عملة جمهورية الديمقراطية الشعبية “الشلن” الذي استمر تداوله جنباً إلى جنب مع الريال. تابعت سيري في شوارع عدن كانت وجهتي الأولى كما أذكر المكتبة الوطنية التي كانت رغم بعض آثار الزمن والإهمال تحوي في رفوفها كنوزاً من الكتب والمراجع التي تعكس عقوداً من النهضة الثقافية والفكرية التي شهدها الجنوب الإشتراكي الذي كان يدعم الكتب وطباعتها. وبالقرب من المكتبة الوطنية أو في طريقي في الأسواق مررت على مكتبات صغيرة أو بسطات تبيع كتب دار الهمداني، الدار الرائدة التي كانت تقدم أعمالاً جادة ومهمة لكتّاب يمنيين وعرب وعالميين. أتذكر جيداً كيف قضيت وقتاً في تصفح عناوينها وكيف حملت معي من عدن إلى صنعاء نسخاً من تلك الكتب التي صدرت عنها، مثل ترجمة غالب هلسا الرائعة والفريدة لرواية “الحارس في حقل الشوفان” لسالنجر، وأعمال متفرقة لسعدي يوسف تعبر عن روح مغايرة ومتمردة، وكتب الماركسي اليمني محمد علي الشهاري التي لم أترك منها أي عنوان وكانت تمثل فكراً نقدياً عميقاً ورؤية مغايرة للتاريخ والمجتمع، ودواوين القرشي عبدالرحيم سلام وغيرها.

زرت أيضاً منزل الشهيد عبدالفتاح إسماعيل في التواهي وكان تحويله إلى متحف خطوة للحفاظ على ذكرى أحد أبرز قادة الدولة الجنوبية، وصعقني مشهد علق بذاكرتي وهو رماد كتبه التي احترقت إثر القصف الذي طاله في أحداث يناير 1986. مشهد مؤلم يلخص جزءاً من المأساة التي ضربت النخبة الجنوبية ومشروعها منذ ذلك الحين. واختتمت زيارة المتحف بأخذ صورة لفتاح أعطاني إياها الحارس وحملتها معي وما تزال بحوزتي حتى اليوم.

كانت عدن في 1990 رغم السخام والسواد الذي بقي على جدار أكبر فنادقها وبعض آثار حرب 13 يناير الدامية التي تركت ندوبها على المدينة وأهلها، كانت مدينة تشي بالسلوك المدني المتجذر بشكل لافت، هذا السلوك لم يكن سطحياً أو مزيفاً بل كان نمط حياة تربت عليه أجيال.

تخيل أن العبور من غير الأماكن المخصصة لعبور المشاة كان يستوجب مخالفة مستخدم الطريق بغرامة مالية، وهذا كان أمراً غريباً على القادم من مدينة مثل صنعاء. كما وجدت الكهول في عدن أكثر وعيا بالسلوك المدني والالتزام بالنظام، وكأنهم حراس هذا الوعي ورموزه الباقية. كانت طيبة أهل عدن بادية في كل مكان فيما المقهى العدني ليس فقط مكاناً لشرب القهوة، بل ملتقى للحوار وجزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمدينة.

على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي كانت عدن تحمل بصمات نظام مختلف تماماً عن الشمال، نظام الدولة الاشتراكية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الذي بنى مؤسسات الدولة حيث كان هناك اعتماد كبير على القطاع العام والميناء وكانت الدولة توفر حداً أدنى من الخدمات الأساسية للمواطنين، وعلى رأسها التعليم والصحة و كانت المدينة تشهد نوعاً من الهدوء النسبي والاستقرار الاجتماعي لكنه كان هدوءً يخفي تحته توقاً للتغيير والانفتاح. لم يكن الفساد المستشري الذي عرفه الشمال متغلغلاً في مؤسسات الدولة الجنوبية في ذلك الوقت، وإن كانت هناك بيروقراطية وركود اقتصادي نسبي بسبب طبيعة النظام المركزي.

كانت الحياة أبسط وأقل رفاهية بمعايير المدن العربية، لكنها كانت تحمل قيماً أخرى كالانضباط واحترام القانون والاعتماد على الدولة. كانت هناك طبقة عاملة وطبقة وسطى تكونت في ظل الدولة الجنوبية تتمتع بنوع من الأمان الوظيفي والاجتماعي. لكن كل ذلك سينتهي إلى الحد الذي جعل الناس مكشوفين تماما ومن دون دولة أو رعاية حتى الآن.

كان دخول عدن ومحافظات الجنوب في الوحدة مؤشراً على انهزام مشروع اليسار والتنوير الذي مثلته الدولة الجنوبية ونخبها، لصالح القبول العاطفي بوحدة مع مجهول كان يحمل في طياته نقيض هذا المشروع تماماً، وما ينتجه الشمال لنفسه ولغيره حتى اليوم ليس سوى الخراب وأيديولوجيا الفقر والتخلف والتعالي على الشعب، سواء من الإماميين وورثتهم أو حتى من محدثي النعمة الذين اغتنوا ونهبوا وسلبوا أموال الدولة في العهد الجمهوري الذي انتكس  منذ اقتحام جماعة صعدة للعاصمة صنعاء ولن يرد له اعتباره إلا باستعادة العاصمة وإن كان ذلك لا يكفي للتأسيس لجمهورية جديدة تختلف عن جمهورية القبائل والضباط والإخوان التي امتدت بين 26 سبتمبر 1962 وحتى 21 سبتمبر 2014.

ويبدو للمتابع والمراقب المحايد أن الشمال في اليمن كان بؤرة لنقل بذرة الخراب إلى كل الجهات، ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي من خلال الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة بل وعلى المستوى الاجتماعي والقيمي من خلال نشر ثقافة الثأر والعصبية القبلية والطائفية والجهل، وهي الموبقات التي امتدت إلى كامل الجغرافيا اليمنية الموحدة، لدرجة أن المنادين الآن باستعادة دولة الجنوب، وللأسف الشديد يقودهم تفكيرهم إلى الحلم باستنساخ شمال جديد في الجنوب من حيث البنية القائمة على الاحتكار والاستئثار والعنصرية والجهل بما يتناقض مع بواكير التنوير والمشروع السياسي المتقدم الذي كانت عدن تمثله ويجعلها مميزة عن محيطها الإقليمي.

***

أرى أن العصبية العمياء لدى قادة الصف الأول في جنوب اليمن اليوم، تجعلهم حفنة أميين سياسيا وفكرياً لا يدركون حجم المسؤولية ولا عمق التاريخ ولا يعرفون من الجنوب إلا أنه مجرد “جهة” جغرافية أو حدود إدارية دون أي وعي بالمشروع التنويري والتحرري الذي تأسس في عدن وكان صداه مؤثراً على مستوى الجزير العربية والمنطقة بأكملها، إنه المشروع الذي بدأه عبدالله عبدالرزاق باذيب وأمثاله من الكبار ونخبة عدن التنويرية، إذ كانت صحافتها الرائدة ومجلاتها الحامل الأول لفكر التنوير منذ وقت مبكر وكونت وعياً مختلفاً ومستنيراً لا مثيل له في أي مكان آخر في الجزيرة العربية.

لا صلة لهؤلاء ولا للمتحلقين حولهم بأي فكر أو نهج يختلف عن السائد اليوم في الشمال، وأصبحوا يتعاملون مع الجنوب بوصفه مجرد جهة أو قبيلة كبرى تريد الاستقلال بأرضها دون أن تختلف في جوهرها ومنطقها وسلوكها عن أرض ومنطق القبيلة المجاورة لها في الشمال. يريدون تحرير الأرض لا تحرير الإنسان ولا بناء مشروع جديد.

كان آخر من وضح وفسر وعلل ما جرى هو علي سالم البيض وياسين سعيد نعمان وإلى حد ما حيدر العطاس، وغيرهم ممن عاشوا التجربة وأسهموا فيها. هؤلاء يعلمون جيدا ما هو المشروع الذي ابتلعته الوحدة وأدت إلى تهميشه وتدميره، لكن من يتصدرون الصف الجنوبي اليوم وبفعل الجهل أو التجاهل المتعمد يريدون استنساخ شمال جديد في الجنوب بأسوأ ما فيه من عادات وتفكير وسلوك وهو ما ينذر بجولة أخرى من الصراع والضياع داخل الجنوب نفسه.


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

عاجل : في خطوة مفاجئة ...رئيس مجلس القضاء الاعلى في العاصمة صنعاء يفاجئ الجميع ويتخذ هذا القرار بحق عبدالملك الحوثي

جهينة يمن | 1139 قراءة 

عاجل: "اليمنية" تفاجئ الجميع وتكشف تفاصيل خطيرة عن الاستهداف الذي تعرّضت له آخر طائرة في مطار صنعاء، وتتخذ قرارًا طارئًا.

جهينة يمن | 947 قراءة 

وزير الإعلام: الحوثيون مسؤولون عن تدمير طائرات اليمنية وتحويل مقدرات الدولة إلى رماد

حشد نت | 825 قراءة 

في صنعاء المختطفة.. رصاصة حوثية تطفئ نور أكاديمي

حشد نت | 544 قراءة 

أول تصريح لـ "نتنياهو" عقب ضر/ب مطار صنعاء

صوت العاصمة | 470 قراءة 

عاجل : بشرى سارة ...هذا ما اتفق عليه الرئيس العليمي مع بوتين اليوم على مأدبة الغداء

جهينة يمن | 448 قراءة 

المشاط يظهر في مطار صنعاء بعد غارات اسرائيلية ويتحدث من فوق الركام عن ”مفاجآت مؤلمة”

المشهد اليمني | 394 قراءة 

10 ملايين ريال وسيارتان وامرأتان! .. شاهد اغرب تحكيم قبلي يثير الجدل في اليمن

المشهد اليمني | 379 قراءة 

عاجل:رئيس الحوثيين يقوم بهذا الامر عقب تعرض مطار صنعاء لغارات

جهينة يمن | 301 قراءة 

طارق صالح يبحث مع سفراء الاتحاد الأوروبي مستجدات الأوضاع في اليمن وسبل تعزيز التعاون

حشد نت | 294 قراءة